التلوين وصندوق سكنر
Mohammad al mobarak
Mohammad al mobarak
5 February 2025

التلوين وصندوق سكنر

قصة: مغامرة ابداعية.

من واقع تجربتي كمعلم تربية فنية، أعددتُ ذات مرة ٦٠ مربعًا صغيرًا مزخرفاً لتوزيعه على الطلاب، 

لكن ظروفًا طارئة منعتني من الحضور. في اليوم التالي، تفاجأت باختفاء جميع المربعات من الدولاب! 

اتضح لاحقًا أن مجموعة من الطلاب – بلهفةٍ لا تُوصف – اخترقوا الغرفة وأخذوها ليلوّنوها سرًا. 

رغم توبيخي لهم على تجاوزهم القواعد، إلا أنني في أعماقي أدركتُ أن هذا الفعل يعكس "تعزيزًا عشوائيًا" بامتياز:

 حماسهم لامتلاك المربعات دون معرفة موعد توزيعها، وتحويلهم النشاط إلى "مغامرة" ذات مكافأة غير مضمونة، 

جعل الإثارة تفوق عقوبة التوبيخ. لقد حوّلوا صندوق سكنر النظري إلى واقعٍ ملموس، 

حيث أصبحت المربعات المُختفية "زرًّا" يضغطون عليه ليحصلوا على غذاء إبداعيٍّ خاص!

https://www.youtube.com/embed/3JWnbF2dr90?showinfo=0

التلوين وصندوق سكنر: كيف تُلهِم المربعات الصغيرة رغبةً لا تنتهي؟  

مقدمة:

التلوين بين الفن وعلم النفس السلوكي  

عندما يمسك طفلٌ بقلم تلوين ويشرع في ملء مربعات صغيرة بلونٍ بعد آخر، فإنه لا يُطلق العنان لإبداعه فحسب، 

بل يخوض – دون وعي – تجربةً سلوكيةً تعكس مبادئ "صندوق سكنر" (Skinner Box)،

 ذلك الجهاز الذي صممه عالم النفس  بيروس فريدريك سكنر لدراسة التعلم عبر التعزيز. 

فكيف تُحاكي رغبة الطالب الشديدة في تلوين المزيد من المربعات آليةَ التعزيز التي تفسرها نظرية سكنر؟  

أولاً. لمربعات الصغيرة: تعزيزٌ بصريٌّ فوري.

في تجارب سكنر، تتعلم الحيوانات أداء سلوكيات محددة للحصول على مكافأة (مثل الطعام)، 

حيث يُعتبر  التعزيز الإيجابي  محركًا رئيسيًا لاستمرار السلوك . 

بالمثل، يشعر الطفل بإحساسٍ فوري بالإنجاز عند إكمال تلوين كل مربع صغير، 

مما يعزز رغبته في الاستمرار. هذه "المكافأة البصرية" – التي تشبه الحصول على غذاء رمزي –

 تُحفِّز الدماغ على تكرار الفعل، تمامًا كما تضغط الفأرة على الزر في صندوق سكنر .  

ثانياً . التعزيز المتقطع: سرُّ الإدمان على التلوين.

وفقًا لسكنر، فإن (التعزيز العشوائي) (مثل الحصول على مكافأة بعد عدد غير متوقع من المحاولات) 

هو الأكثر فعالية في الحفاظ على السلوك . عند تلوين سلسلة من المربعات، قد لا يحصل الطفل على تشجيعٍ في كل مرة، 

لكن تكرار الإشادة بأعماله بين الحين والآخر – أو حتى شعوره الذاتي بالإنجاز – 

يخلق توقعًا غير مُحدد للمكافأة، مما يدفعه لمواصلة التلوين بلهفة، كأنه في لعبة قمار مصغرة!  

ثالثاً. من "التنسيق بين العين واليد" إلى "التعليم المبرمج".

لا يقتصر دور التلوين على تنمية المهارات الحركية الدقيقة أو الإبداع ، بل يُشكِّل أداةً لـ التعليم المبرمج

الذي دعا إليه سكنر. فكل مربع يُلوَّن يمثل "خطوة صغيرة" نحو هدف أكبر، 

مثل إكمال صورة كاملة. هذا التقسيم للمهام إلى أجزاء بسيطة

 – مع تعزيز كل خطوة – يُشبه تصميم سكنر للتعلم عبر تكرار السلوكيات البسيطة وتعزيزها .  

رابعاً . التلوين كـ"مُسكِّن للتوتر": تعزيزٌ ذاتيٌ غير ملموس.

أظهرت دراسات أن التلوين يُقلل التوتر ويُحسِّن المزاج ، وهو ما يُشبه التعزيز السلبي في صندوق سكنر، 

حيث يُمارس الفرد سلوكًا لتجنب عقاب (مثل القلق). هنا، يصبح التلوين وسيلةً للهروب من الضغوط، 

مما يزيد من تعلُّق الطفل بالنشاط، تمامًا كما تتعلم الفئران في التجارب تجنب الصدمات الكهربائية بالضغط على الزر .  

خامساً: عندما يلون الطفل مربعًا صغيرًا، يحصل على مكافأة فورية منها:

المكافأة الأولي . الشعور بالإنجاز: كل مربع ملون هو خطوة نحو إكمال الصورة، مما يعطي الطفل شعورًا بالإنجاز والرضا.

المكافأة الثانية .الاستمتاع بالألوان: الألوان الزاهية والمختلفة تجلب السعادة والبهجة للطفل.

المكافأة الثالثة .التعبير عن الذات: التلوين يمنح الطفل فرصة للتعبير عن نفسه وإبداعه.

هذه المكافآت الفورية تشجع الطفل على تكرار سلوك التلوين، تمامًا كما يحصل الحيوان على مكافأة في صندوق سكنر.

أخيراً :

 بين الفن والسلوك.. رسالةٌ للمربين  

التلوين ليس مجرد نشاطٍ فني، بل هو بوابة لفهم آليات التعلم البشري. 

فكما صمم سكنر صندوقه لدراسة السلوك، يمكننا تصميم أنشطة تلوين تُحوِّل الرغبة العابرة إلى شغفٍ دائم، 

عبر دمج التعزيز الذكي مع الحرية الإبداعية. فليكن كل مربعٍ مُلوَّن خطوةً نحو اكتشافٍ أعمق لعقل الطفل!  

---

المراجع:

 فوائد التلوين في تنمية المهارات الحركية والتركيز .  

مبادئ صندوق سكنر والتعزيز العشوائي .  

تطبيقات تربوية لدمج الفن بنظريات التعلم .